بحثنا عنه كثيرا.. انتظرناه طويلا فى منزله البسيط.. وأخيرا وجدناه.. وجدناه يجلس أسفل إحدى أشجار الزيتون، وسط عدد ممن يشبهنه.. ينتظر وقت انتهاء العمل ليحصل فى نهاية اليوم على 10 جنيهات يعود بها إلى أبيه القعيد وإخوته الصغار. نظرات عينيهوالسوداوين تحمل معها آلاف الكلمات، لا يحتاج إلى الكلام لتعرف منه أن الحر و«لسعة» الشمس جعلا بشرته أشبه بشعره الأسود، لا يحتاج للكلام لتعرف منه أن وفاة أمه جعلته يصل لسن الخمسين، على الرغم من أنه لم يتجاوز «10» أعوام. لا يحتاج للكلام لتعرف منه أن آلام فقدان الأم جعلته لا يخشى طلقات الرصاص والتفجيرات والحرب على الإرهاب فى قريته بالشيخ زويد، لا يحتاج «أسامة»، طالب الصف الخامس الابتدائى، للكلام ليثبت لنا أنه هو مَن كتب فى الامتحان عبارة «أمى ماتت ومات معها كل شىء». عندما تنظر إليه ستقرأ فى عينيه ألف جملة، ربما أكثر حزنا وقسوة وإنسانية من تلك العبارة التى كتبها فى الامتحان.
سامة أحمد حماد، الطالب فى الصف الخامس الابتدائى بمدرسة الشاطئ بالشيخ زويد، تلك المدرسة التى تقع فى أكثر الأماكن خطورة، من حيث معارك الحرب على الإرهاب، حتى تاريخ 12 مارس 2011، كان مشهد ذهابه إلى المدرسة يتكرر فى كل يوم كالتالى: الأم تمسك بيد طفلها، الذى كان وقتها فى الصف الثانى الابتدائى، تسير معه لأكثر من 7 كيلومترات تقريبا حتى يصل إلى مدرسته، بينما كان يرجع بمفرده آخر اليوم الدراسى، نظرا لانشغال والدته بإخوته. وقتها لم تكن هناك عصابات إرهابية مسلحة ولا قصف بالطيران ولا انفجارات. ماتت الأم بعد مرض شديد ألمَّ بها، ومنذ هذا الوقت والمشهد تغير. تولى «أسامة» دور الأم، بسبب عجز والده الذى لا يستطيع الحركة.
مع زيادة معارك الإرهاب بين الأمن والمسلحين فى سيناء، كان أسامة يطلب من أخيه أن يظل فى المنزل خوفا عليه، بينما هو كان يسير غير مكترث برصاص العصابات المسلحة، وعندما سألته عن سبب عدم بقائه هو الآخر فى المنزل رد: «كنت باحَوِّش أيام الإجازات لموسم جنى الزيتون».
لمَن لا يعرف «أسامة»، فهو طالب الصف الخامس الابتدائى، الذى أصبح مسؤولا عن أب عاجز و4 أخوات بعد وفاة أمه التى كانت تتولى المسؤولية، هو الطالب الذى أبكى ملايين من المصريين، بعدما كتب جملة من 6 كلمات فقط فى كراسة إجابة اللغة العربية: «أمى ماتت ومات معها كل شىء». هو الطالب الذى بعد أن نشر مدرسه كلامه على وسائل التواصل الاجتماعى قرر محافظ شمال سيناء تكريمه، وعندما ذهبوا لإحضاره إلى مقر المحافظة لمقابلة المحافظ لم يجدوه فى منزله. وجدوه يعمل فى الحقل، يعمل باليومية، رفض الذهاب للتكريم، فى البداية اعتقد الجميع، بمَن فيهم المحافظ والمسؤولون فى الإدارة التعليمية، أن أسباب الرفض قد تتعلق بموت أمه، أول ما بدر فى أذهانهم أنها قُتلت برصاص الإرهاب أو الأمن، لكن كانت المفاجأة، أسامة رفض الذهاب للتكريم حتى لا يفقد «اليومية»، حتى لا تضيع 10 جنيهات يتحصل عليها من أجل إطعام أسرته!
وسط حقل الزيتون شاهدناه يجلس وسط زملائه، يحكى وكأنه شاب فارع لديه خبرة بكل ما يدور فى المكان، يحكى عن المسلحين وما يفعلونه بهم، يروى لحظات الرعب التى عاشها وأسرته ومَن هم بالقرب منه وقت سماعهم صوت «الزَّنَّانة».. تلك الطائرة العسكرية التى ربط الأهالى هناك صوتها ببداية القصف الجوى على معاقل الإرهاب فى المنطقة.
تركت أسامة مع زملائه يواصلون عملهم دون أن أسأل عن أمه بناء على نصيحة أحد زملائه، الذى قال لى: «كل ما حد بيكلمه عن أمه بيعيط»، فقررت ألا أسأل، ربما العمل وحرارة الشمس يذيبان جبل الأحزان بداخله.